الحزب السوري القومي الإجتماعي - مديرية بعقلين

مديرية بعقلين

الجدار الأخضر - كمال خير بك

هذي جراحي.. كل جرح يرتمي

درباً لهّبة جيشنا الهدار



ان قطعوا مني يميني أسرعت

لتعيد ملحمة النضال يساري



سأظل اشعل للكفاح قصائدي

واقود، في جمر اللظى تياري



وعلى صليب الشعب أرفع جبهتي

ما هم جسمي قسوة المسمار

                        غرد على قلمي.. على قيثارتي

اني أحسك في صدى أشعاري



لهبا.. وعاصفة تثور.. وصيحة

تجتاح قلب الشعب كالاعصار



غرد ففي صدري شراع جائع

يشتاق أن يلوي عناد الصاري



أنا لا أطيق الصمت.. فاصرخ في فمي

يا زارع البركان في أوتاري



اني أغص مع الهتاف.. و تنحني،

في لوعة الذكرى، غصون الغار



هذا الجدار.. وخلفه لي قصة

خرساء تكتمها حجار الدار.



هذا الجدار.. يضم بعض هزيمتي

وتشردي.. وتمزقي.. واساري



هذا الجدار.. تنام فيه جحافلي

وغداً تفيق على نداء الثار



مهلا.. اذا مات السكون على يدي

وانهار في زحف الجيوش جداري



ستطل من هذا العرين براعمي

وتقوم تهزأ بالردى أزهاري



أشبال هذي الدار.. بعض عواصفي

وزئيرهم شعري، و لحن كناري



لن يركعوا تحت الظلام وان طغت

خلف الظلام خناجر الاشرار



لن يركعوا.. والحرف في أقلامهم

من جمر ملحمتي وضوء نهاري



*

من أرض "بشمزين" لي أسطورة(1)

عبأت منها أكؤسي وجراري



وأخذت أشرب.. لا قيود تصدني

عنها، ولا صوت الغراب الضاري(2)



أحرقت فيها عتمتي وصوامعي

وفرطت مسبحتي.. وبعت سواري



وبدأت أرسي في "الصنوبر" زورقي(3)

وأقيم مينائي.. وأرض مطاري



ما زلت أشرب.. والضفادع عربدت

حولي، ورجع نقيقها الثرثار



كالموجة انحسرت.. وذاب غرورها

 تكسرت عن صخري الجبار



لا حقد يربض في فمي أو ساعدي

لكنني ان قلت، لست أداري:



الظامئون.. لهم دمي و محبتي

والجائعون، فتات لحمي العاري



الحاسدون.. الجارحون روايتي

الحاقدون.. الناهشون ستاري



لن يخمدوا حبي ونار ألوهتي

لن يطفئوا مجدي ونور مناري



هذي الصواعق للخلود.. وللردى

صوت الذئاب وعتمة الاسوار



هذا الضجيج يموت خلف مواكبي

هذا الفحيح يضيع بين غباري

 *

من أرض "بشمزين" أنشر رايتي

وأسير: حب الموت بعض شعاري



فأنا هنا.. وهناك صرخة ثائر

وهدير عاصفة.. ونبع دمار



للغاصبين .. الغادرين بأمتي

السارقين كرامتي وغماري



من فرقوا شملي وشمل أحبتي

من مزقوا لحمي و لحم صغاري..



بالصخر.. بالطوفان.. بالدم.. بالردى

بزلازلي.. بصواعقي.. بالنار



سأرد عن هذا التراب نيوبهم

وأزيح عن شعبي رداء العار



ان شوهوا أمسي.. ففي مستقبلي

شمس تبدد ظلمة الاثار



ان قطعوا مني يميني.. أسرعت،

لتعيد ملحمة النضال، يساري



هذي جراحي.. كل جرح يرتمي

درباً لهبة جيشنا الهدار



سأظل أشعل للكفاح قصائدي

وأقود، في جمر اللظى، تياري



وعلى صليب الشعب أرفع جبهتي

ما هم جسمي قسوة المسمار!!

المحاضرة الأولى - أنطون سعادة

المحاضرة الأولى

في 7 كانون الثاني 1948

في أول اجتماع عقد في هذا المكان وكان مخصصاً للطلبة القوميين الاجتماعيين في الجامعة الأميركانية، وعدت الطلبة بإعادة النشاط الثقافي في الحزب القومي الاجتماعي بإعادة الندوة الثقافية التي كانت تأسست في الحزب قبل سفري واستمرت نحو سنتين، ثم تركت أعمالها بسبب الحرب والاعتقالات والمعارك السياسية التي تعرض الحزب لها.

في الاجتماع الأول المذكور أعلنت للرفقاء الطلبة أني أرى أن انتشار الحركة القومية الاجتماعية، في السنوات الأخيرة، كان مجرد انتشار أفقي، سطحي، يعرضها بقاؤها عليه للميعان والتفسخ والتفكك. ولذلك أرى الإسراع بإعادة الندوة الثقافية ودرس تعاليم النهضة القومية الاجتماعية والقضايا التي تتناولها ، ضرورة لا يمكن إغفالها.

أما الحضور إلى الندوة فيجب أن يعتبر، خصوصاً في الأوساط الثقافية، واجباً أولياً أساسياً في العمل للحركة القومية الاجتماعية، لأنه إذا لم نفهم أهداف الحركة وأسسها والقضايا والمسائل التي تواجهها لا نكون قادرين على فعل شيء في سبيل الحركة والعقيدة والغاية التي اجتمعنا لتحقيقها. فالمعرفة والفهم هما الضرورة الأساسية الأولى للعمل الذي نسعى إلى تحقيقه.

وإذا كنا نريد، فعلاً، تحقيق النهضة القومية الاجتماعية وتأسيس المجتمع الجديد بتعاليمها ودعائمها، كان الواجب الأول على كل قومي اجتماعي في الأوساط الثقافية، الاطلاع على الأمور الأساسية، وفي صدر وسائل الاطلاع والمعرفة الصحيحة ، الندوة الثقافية. فيجب أن نطبق نظامنا على اجتماعات الندوة الثقافية. وإذا كنا لا نقدر أن نطبق النظام في الأوساط المثقفة، اعترفنا بأن هذه الأوساط غير صالحة لحمل أعباء حركة فكرية ذات نظرة واضحة إلى الحياة وليست أهلاً للاضطلاع بعمل عظيم كالذي وضعناه نصب أعيننا، وهو إيجاد مجتمع جديد نير في هذه البلاد وإيصال هذه النظرة إلى كل مكان. يجب علينا أن نفهم هدفنا فهماً صحيحاً لنكون قوة فاعلة محققة ولكي نتمكن من العمل المنتج.

بعد الاطلاع يمكن تكوين رأي. وحينئذ لا يبقى مجال لحدوث بلبلة كما حدث في الماضي في غيابي وعلى أثر مجيئي وأخذي الأمور بالنقد والتحليل وأخذي التدابير للقضاء على الفوضى والانحرافات التي كانت آخذة في التفشي وتهديد مستقبل هذه النهضة العظيمة القائمة بالإيمان وآلام ألوف العاملين بإيمان وإخلاص. فلا بد من الاعتراف أنه كان في الدوائر العليا تفسخ في الأفكار والروحية وفي النظر إلى الحركة ومراميها.

ولكي لا نعود القهقرى يجب أن نكون مجتمعاً، واعياً، مدركاً، وهذا لا يتم إلا بالدرس المنظم والوعي الصحيح. إن محاضرة تشتمل على كل الأسس في الحركة القومية الاجتماعية لا تعطي النتيجة الثقافية المطلوبة، لأن الثقافة عمل طويل لا يمكن أن يتم برسالة واحدة أو كتاب واحد، و لأن الأمور تحتاج إلى تفصيل وتوضيح بالنسبة للمسائل التي نواجهها. علينا أن نفهم فلسفة الحركة لندرك كيف يمكن أن نعالج الأمور. في الاجتماع الأول للطلبة قلت شيئاً أريد أن أذكر الطلاب به وهو: عندما نقول نهضة نعني شيئاً واضحاً لا التباس فيه ولا مجال لتضارب التأويلات في صدده. النهضة لا تعني الاطلاع في مختلف نواح ثقافية متعددة وفي التيارات الفكرية الموزعة في هذه البلاد والتي جاءت مع بعض المدارس من انقلوسكسونية ولاتينية وغيرها، وإنها لا تعني مجرد الاطلاع والتكلم في المواضيع المتعددة أو المتضاربة بدون غاية وقصد ووضوح.

التكلم فيما نعرفه عن بعض الفلاسفة الغربيين أو المفكرين السياسيين الغربيين أو الذين اكتشفوا اكتشافات علمية لا يكفي ليكون نهضة منا نحن.

إن النهضة لها مدلول واضح عندنا وهو، خروجنا من التخبط والبلبلة والتفسخ الروحي بين مختلف العقائد إلى عقيدة جلية صحيحة واضحة نشعر أنها تعبر عن جوهر نفسيتنا وشخصيتنا القومية الاجتماعية. إلى نظرة جلية ، قوية، إلى الحياة والعالم.

إذا وصلنا إلى الاقتناع بأننا أصبحنا ننظر إلى الحياة وإلى الكون الماثل أمامنا وإلى الخلق الذي ينبثق منا بالنسبة إلى الإمكانيات كلها في العالم ونستعرض مظاهرها ونفهم كل ذلك فهماً داخلياً، بنظر اصلي ينبثق منا نحن بالنظر لحقيقتنا، حينئذ يمكننا القول إن لنا نهضة ، أن لنا أهدافاً.

أما التكلم المبعثر على وولتار وموليار ولنكلن وهيقل ووليم جايمس وكانت وشوبنهور... الخ. وعلى مختلف المدارس الفكرية بدون أن يكون لنا رأي وموقف واضح في تلك الأفكار وأولئك المفكرين، فلا يعني أن لنا نهضة. إن ذلك لا يعني إلا بلبلة وزيادة تخبط. إن الفكر البعيد عن هذه القضايا هو أفضل من الفكر المضطرب المتراوح الذي لا يقدر أن ينحاز أو أن يتجه، لأنه متخبط وليس له نظرة أصلية، ولا يدرك ماذا يريد.

الفكر المضطرب يبتدئ بالتأثر بأحد المفكرين ثم ينتقل إلى آخر ثم يحصر نفسه ضمن نطاق بعض الأفكار ولا يعود يخرج. ويبدأ بمناقضة كل من له رأي آخر فتنشأ حالة الفسيفساء التي تتقارب قطعها ولكنها لا تتحد.

إن مثل هذا الفكر لا يمكنه أن يحقق شيئاً. الإنسان الذي لا يزال على سذاجة الفطرة له شخصية واستقلال نفسي وجوهر أعظم من شخص وضع نفسه أداة تسير بأفكار بعيدة عن حقيقته. إن الأفكار المعتنقة اقتباساً من الخارج لا تحرك عوامل النفسية الصحيحة. النهضة، إذا، هي الخروج من التفسخ والتضارب والشك إلى الوضوح والجلاء والثقة واليقين والإيمان والعمل بإرادة واضحة وعزيمة صادقة. هذا هو معنى النهضة لنا.

هذا المعنى ظهر طابعه في بداية العمل السوري القومي الاجتماعي. ويظهر ضمن وثائق متعددة أهمها وأولها خطاب الزعيم في أول حزيران 1935 الذي عبر فيه عن قواعد أساسية هامة وعن أهداف عملية يتوخى الحزب إصابتها والتمكن منها.

وقد فهم الناظرون، من خارج الحزب إلى ذلك الخطاب، قيمته العقدية والتوجيهية وتعبيره عن نظرة الحزب ونهجه ، وعدّوه الوثيقة الأساسية لدرس حقيقة الحزب السوري القومي الاجتماعي ومراميه وكتبوا في ذلك، كما فعل الخور أسقف لويس خليل الذي أصدر سنة 1936 كراساً لمحاربة النهضة القومية الاجتماعية وتعاليمها التحريرية الواضعة قواعد مجتمع جديد جعل عنوانه "الحزب السوري القومي، مؤامرة على الدين والوطن". وفي اجتماع مقبل سنحلل ذلك الخطاب، ثم ندرس من جديد المبادئ التي ندين بها دراسة كاملة. إن المبادئ هي مكتنزات الفكر والقوى، هي قواعد انطلاق الفكر وليست المبادئ إلا مراكز انطلاق في اتجاه واضح إذا لم نفهمها صعب علينا أخيراً أن نفهم حقيقة ما تعني لنا . كيف نؤسس بها حياة جديدة أفضل من الحياة التي لا تزال قائمة خارج نطاق نهضتنا.

كنت أتوقع في غيابي أن يكون القوميون الاجتماعيون المهتمون بالمسائل الروحية الثقافية والأسس الفكرية قد جعلوا همهم الأول درس حقيقة مبادئ النهضة ودرس الشروح الأولية الأساسية التي توضح الاتجاه والغاية والأهداف القومية الاجتماعية، إرساخاً للعقيدة وتدقيقاً في العمل. هذا ما كان ينتظر. ولكن ما استغربته كثيراً جداً هو الاتجاهات الانحرافية التي نشأت وبرهنت على أنه لم يكن شيء مما توقعت. وقد ظهر، من الاختبارات التي مرت في السنوات الثلاث أو الأربع الماضية، أن تاريخ الحزب، ضمن العوامل التي جابهها، لم يكن له أثر فاعل في التوجيه. وهذه الحقيقة تدل على أنه لم تكن هنالك عناية بتدريس تاريخ الحزب ــ تاريخ نشأته وسيره الأول ــ وكيف تغلب على الصعوبات، وما هي القضايا الأولى التي جابهها وكيف عالجها، وكيف أنشأ قضية عظيمة وجعلها تنتشر وتمتد وتسيطر على الرغم من كل الصعوبات والعراقيل التي اعترضتها.

لم يكن الأمر يقف عند هذا الحد. فإن استغرابي بلغ حداً عالياً عندما وجدت أن أعضاء في الحزب السوري القومي الاجتماعي يدعون أنفسهم قوميين اجتماعيين، لأنهم مسجلون رسمياً في الحزب، يتقولون في قضايا الحزب والعقيدة والحركة كما لو كانوا جماعة غرباء عن الحركة القومية الاجتماعية بالكلية. النظامية الفكرية والروحية والمناقبية التي كانت العامل الأساسي الأول في نشوء النهضة القومية الاجتماعية وتولد هذه الحركة العظيمة الآخذة في تغيير نفسية هذه الأمة ومصيرها، كادت تنعدم في دوائر الحزب العليا بعامل الإهمال، وأصبحت الحركة مهددة بالميعان العقدي والنظامي.

القضية الأولى التي نشأت، وظهرت كل عواملها بعد رجوعي كانت قضية نعمة ثابت ومـأمون أياس. هذه القضية إذا تركنا ناحيتها الشخصية، التي هي الأساسية، أي المرامي الشخصية للمذكورين، بقيت هنالك قضية في ذاتها هي قضية التحديد القومي للأمة السورية. في هذه الناحية الواضحة التي لا يمكن أن يحصل فيها أي التباس حصلت اعوجاجات كادت تشوش حقيقة القضية القومية الاجتماعية. إن "الواقع اللبناني" الذي كتبه نعمة ثابت وألقاه في اجتماع بعقلين سنة 1944 يشكل خروجاً عن معنى الأمة الذي نفهمه والانتقال إلى القول بأمة جديدة، "الأمة اللبنانية" وهو، فوق ذلك، بدل على إهمال مقصود لدرس عقيدة الحزب وتاريخه.

في "الواقع اللبناني" كل شيء قومي صار "لبنانياً": فقد تكلم نعمة ثابت فيه على قيم لها كل الصفة القومية العامة ونسبها إلى لبنان واللبنانيين بدلاً من أن ينسبها إلى سورية والسوريين كما يتفق مع الحقيقة. من هذه القيم التراث والأخلاق والثقافة والتاريخ والرسالة. والظاهر أن الحزب قبل انتشار "الواقع اللبناني" بحكم النظام فقط لأنني وجدت أن مجموع القوميين الاجتماعيين لم يتقيدوا بفكر واحد من هذه الأفكار. ولكن قبول هذا الخروج العقدي، وإن يكن في الظاهر فقط، يكون مسألة من المسائل الخطيرة . وان مجرد الإقدام على الخروج المذكور لم يكن ممكناً إلا بعامل إهمال تاريخ الحزب وإغفال درس عقيدته ونظرته إلى الحياة والكون والفن.

نشأت بعد ذلك قضية فايز صايغ وغسّان تويني ويوسف الخال. وهي أيضاً شخصية لكنها أظهرت اشتراكات فكرية توجب النظر في هذه الظاهرة وفي العوامل الفكرية وسيرها وتحديدها، وتحديد الاتجاه الفكري الروحي القومي الاجتماعي.

إن قضية فايز صايغ لم تبتدئ بعد عودتي، بل ابتدأت قبل عودتي عندما وصلني للمرة الأولى نسختان من العددين الأول والثاني من "نشرة عمدة الثقافة". ففي العدد الأول استلفت نظري ناحيتان:
 1ــ خروج على كل القواعد الدستورية.
 2ــ خروج على كل الأساس العقائدي الروحي للحركة القومية الاجتماعية.

وحالما قرأت هذه العبارات الأولى الواردة في كلمة عمدة الثقافة والفنون الجميلة التي قدمت بها نشرة الثقافة "إلى القارئ"، "يشرف على هذه النشرة عميد الثقافة" وأنه هو "المسؤول النهائي عنها" وأن النشرة تنطبق عليها "سياسة العميد" اللادستورية، بدلاً من سياسة الزعيم المنصوص عنها في الدستور، وأن للعمدة رسالة ثقافية خاصة غير مندمجة في رسالة الحركة القومية الاجتماعية الثقافية، عندما قرأت هذا ورأيت إعلان هذا الانفراد وهذا الشذوذ تساءلت: ما هو الداعي لإعلان مسؤولية العميد "النهائية" التي تعني انه لا يحق لمجالس الحزب ولا للزعيم نفسه التدخل فيها؟ وقد رأيت في ذاك التصرف خروجاً أساسياً على نظام الحزب ومؤسساته ولكل ما يعني وحدة الحزب لبلوغ الغاية الواحدة، ونزعة شخصية شديدة نحو الأنانية ونحو دكتاتورية فردية قبيحة لا تأخذ إرادة عامة ولا دستوراً نافذاً بعين الاعتبار.

ثم قرأت ما سماه فايز صايغ "البيان الأساسي لعمدة الثقافة والفنون الجميلة" المنشور في العدد الأول من نشرة عمدة الثقافة "بعد المقدمة التي ذكرتها آنفاً، خصوصاً ما سماه" مبادئ أساسية في سياسة هذه العمدة "من البيان المذكور، فوجدت أن هنالك انحرافاً أساسياً عن نظرة الحركة وقضيتها ومبادئها، عن غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي، إذ إنّه نزع عن الثقافة معناها وغرضها القومي الاجتماعي وجعلها أمراً "شخصياً حراً" ونزع عن العمدة مسؤوليتها تجاه التعاليم السورية القومية الاجتماعية وجعلها تجاه القيم العليا "التي يكون من حق العميد وحده تعيين ماهيتها...الخ".

وبعد أن وصل غسان تويني إلى اميركانية مكلفاً بإعطاء الزعيم تقريراً عن حالة الحزب وأرسل إلي تقريره شعرت أن الانحراف الواقع فيه عميد الثقافة فايز صايغ واقع فيه غسان تويني أيضاً.

أجبت غسان تويني مثنياُ على الطريقة التي كتب بها وأبديت له النقاط التي أخطأ فيها فاعترف بخطئه، إلا في القضايا التي كان متضامناً فيها مع فايز صايغ، إذ هو أيضاً تأثر بتعليم المذهب الشخصي الفردي، كما يبدو من مقدمة رسالة كان وضعها في معنى الأمة، ومن عبارات وردت في رسائله.

وقد أرسلت خلاصة المراسلة التي دارت بيني وبين المكلف غسان تويني إلى نعمة ثابت في شهر أيلول من سنة 1946 وكان بذلك وضع حد لسياسة عميد الثقافة ومشاريعه. وتعلقت قضيته إلى ما بعد عودتي. وبعد اطلاعي في أواخر الصيف الماضي على كتابات فايز صايغ، رأيت أنها تتضمن خطوط عقيدة جديدة جلبت من خارج الحزب، لتحل محل العقيدة القومية الاجتماعية، فثارت قضية فايز صايغ مجدداً بصورتها التي اطلعتم عليها وعلى نتيجتها الأخيرة.

قبل نهاية القضية أتى غسان تويني ويوسف الخال ويوسف نويهض وكان معهم الرفيقان حلمي وفوزي معلوف. وتكلم غسان تويني ويوسف الخال في موضوع "حرية الفكر" ومن الطريقة التي تكلما فيها ظهر لي أنهما يتكلمان بأفكار وروحية وعقائد هي من خارج الحزب، لا من داخله، فقلت لهما: إنكما تمثلان اعتقادات ليست من القضية ولا من نظرة الحركة أو إيمانها، بل من أفكار وتأثيرات لا علاقة لها بالحركة القومية الاجتماعية وفلسفتها وعقيدتها وروحيتها.

من الأمور الغريبة في هذا الصدد، أنه بدلاً من أن يسأل شخص يعتبر نفسه عضواً في حركة ترمي إلى تأسيس مجتمع قومي على قواعد جديدة يؤمن أنها صحيحة ، بدلاً من أن يقول: كيف نحقق هذه القضية فنتغلب على كل الصعوبات والبلبلة والعراقيل التي تؤدي إلى تفسخ المجتمع السوري؟ بدلاً من هذا يقول: "يجب أن نعرف ماذا سيحدث لكل الأفكار التي كونت هذه البلبلة في البلاد، بعد انتصار الحركة القومية الاجتماعية وتسلمها الحكم؟ ما هو مصير التيارات الفكرية التي بلبلت الشعب ومسخته؟ ماذا سيكون مصير هذه الأفكار متى نجحت الحركة القومية الاجتماعية؟".

ومن أغرب الأمور أن الذين كانوا يسألون كانوا يظنون أنهم على مستوى فلسفي يؤهلهم للبحث. ولكنهم كانوا ينظرون الى الأمور بالمقلوب وهم أبعد الناس عن النظر في القضايا الأساسية.

زبدة قولهم هي : إننا لا قضية صحيحة لنا. لأننا حين نفكر بماذا يكون مصير الأفكار التي ستسقط في صراع الحياة، وكيف يمكن أن ننقذها، فإننا إذ نعلن أنه ليس لنا قضية صحيحة قادرة على إنشاء مجتمع صحيح وتسيير هذا المجتمع على قواعد أخلاقية روحية سياسية أفضل.

وإذا كنا لا نؤمن بأن لنا قضية صحيحة كلية نريد تحقيقها فلماذا، إذاً، هذا الحزب وهذه الأنظمة وهذه الروابط؟ الرابطة إذاً هي مادية مفروضة وليست روحية باليقين والاقتناع بأننا نعمل لإنشاء مجتمع أفضل وحياة أفضل! .

إذا كانت لا توجد لنا قضية تعني كل وجودنا فلا حاجة بنا للقول بالحزب السوري القومي الاجتماعي. نحن في الحزب لأننا في قضية تجمعنا، وكما عبرت في خطابي أول حزيران 1935، من أجلها نقف معاً ونسقط كلنا معاً. والوقوف معاً والسقوط معاً في حركة قوية إما أن نكون غالبين فيها أو مغلوبين، يعني، بما لا يقبل الشك، أننا نؤمن بقضية أساسية جوهرية.

في الانحرافات التي نشأت وفي التعابير التي استعملها فايز صايغ وغسان تويني المنحرفة كل الانحراف، أصبحنا جماعة لا تعرف الحق والخير والجمال، وقضيتها مجردة من هذه القيم. لأننا حين نشك، وحين نريد أن ننقذ الحق والخير والجمال من انتصار حركتنا، حين نرى أن انتصارنا يعني تعطيل الحق والخير والجمال وأننا، لذلك، يجب أن نعمل على إنقاذها من انتصارنا حينئذ يجب القول إن الحق والخير والجمال موجودة خارج قضيتنا. وما معنى قضيتنا إذا لم تكن مؤسسة على الخير والحق والجمال؟

إن هذه الحقيقة التي لأجلها نجابه كل الأخطار من كل نوع هي حقيقة أن قضيتنا فيها كل الخير وكل الحق وكل الجمال وكل الحقيقة وكل العدل للمجتمع الإنساني. من اجل هذا الإيمان يذهب مئات وألوف إلى السجون ويتعرضون لشتى صنوف الويلات وتذوب جسومهم يوماً فيوماً ولا يئنون ولا يستنجدون.

بهذا الإيمان يعملون للحق كله والخير كله والجمال كله التي تعبر عنها قضيتنا.

لو بقيت تلك العوامل الانحرافية فاعلة لوصلنا إلى انعدام الثقة بأنفسنا وإلى الشك في مقاصدنا وطبيعتنا وحقيقتنا و في نفوسنا التي هي الضمان الأخير.

إذا كنا بطبيعتنا أشرارا فلا يوجد قواعد تغير هذا الطبع، وحين لا يوجد للحق والخير والجمال ضمان من أنفسنا، فلا يمكن كل مفكري العالم إنقاذها من طبيعتنا.

نحن نؤمن بنفوسنا قبل كل شيء، بحقيقتنا الجميلة الخيرة القوية والمحبة.

فما فائدتنا من ترك الخير كما نراه، لنذهب وراء ما هو خير لحقيقة غير حقيقتنا؟

وأي فائدة لنا من ربح العالم كله وخسارة نفسنا؟!

يجب أن يكون لنا الثقة بأن لنا المقدرة الاجتماعية العليا لكل مجتمع مدرك، لندرك ما هو الحق والخير والجمال.

فإذا وجدت هذه القيم من غير أن تمت إلى مجتمعنا بصلة ومن غير أن تعبر عن حقيقته أو جماله أو خيره، فلا خير ولا حق ولا جمال. فما لا نقدر أن نراه نحن أنه الحق والخير والجمال، لا يمكن أن يكون خيراً وحقاً وجمالاً.

نحن جماعة مؤمنة بحقيقتها وطبيعتها وأساسها، مؤمنة بأنه لا يمكن أن يكون في حقيقتها وطبيعتها إلا الحق والخير والجمال.

في الأفراد فقط تلعب المفاسد. ولا يمكن لهؤلاء أن يصموا المجتمع كله بالمفاسد التي في أنفسهم. لا يمكن لمبادئ أن تعوضنا عن خسارتنا هذه الحقيقة. إذا خسرناها لا شيء يعوض علينا فقدها.

إن حزبنا في سيره، في عمله، في نضاله، يمثل ويعمل ويصارع في سبيل أساس أفضل لحياة الإنسان ــ المجتمع. إن انتشار دعوته وقضيته في جميع أوساط الشعب السوري دليل واضح ناصع على الحقيقة الأساسية التي يعبر عنها الحزب القومي الاجتماعي.

فكيف نسمح للشك بهذه الحقيقة أن يتسرب إلى عقولنا؟

كيف نسمح، بعد أن أدركنا هذه الحقيقة ، بأن نسمع من يقول: أننا لسنا على الحق والخير والجمال؟ وأن هناك قضايا تمثلها مبادئ أفضل من مبادئنا الأمر الذي يعني إلغاء مبرر وجودنا كمجتمع وكنظام جديد.

إن الذين يقولون مثل هذه الأقوال: "إنني لا أفعل مصلحة القضية القومية الاجتماعية، مصلحة أمتي، إلا بقدر ما يعكس الحق والجمال نفسيهما فيها". "أنا أكون قومياً وأخدم مصلحة أمتي وبلادي بشرط أن لا أتعصب على الحق والخير والجمال أينما وجدت". "لن نسمح لاعتبارات خارجة عن نطاق قيم الحق والخير والجمال أن تتدخل في شؤون إنتاج يتوخى التعبير عن الحق والخير والجمال". إن الذين يقولون مثل ذلك، يعدون الحق والخير والجمال خارج نطاق عقيدتنا ــ نطاق قضيتنا القومية الاجتماعية ــ أي أن قضيتنا لا تتضمن الحق والخير والجمال وليست، في قواعدها وانطلاقها، تعبيراً صحيحاً عن الحق والخير والجمال!!

لا يجوز أن نسمح بمثل هذه السفسطات! إذا سألت واحداً من أولئك السفسطائيين: ما قولك في الحزب الشيوعي إذا حرمنا عليه العمل والاستمرار وتكوين الطبقات في قلب الأمة؟ أجاب فوراً "لا بأس".

إذا كان يقول ذلك ويجيز إنقاذ الأمة من مساوئ الحزب الشيوعي في البلاد، فهو يقر بضبط الأمر وتوجيهه وضبط الأفكار والسماح للصحيح الذي يقدم الخير للأمة لكي ينمو، وبتشذيب الفاسد لكي لا يعمل على إفساد ما بقي من حيوية الأمة وفاعليتها.

فإذا سلم معنا في ناحية ،وجب عليه أن يسلم في كل النواحي. وإذا كانوا يسلمون بأننا نعرف الفاسد في حقيقته فنحن إذاً نعمل لمحو الفاسد في جميع القضايا.

إذاً، يجب التسليم بأننا حركة صحيحة وجدت الحقيقة والحق والخير والجمال واشتملت عليها تعاليمها.

وهذا يدل على أن النفسية التي صدرت عنها هذه القضية القومية الصحيحة هي نفسية جميلة، خيرة، تعرف بأية فكرة يجب أن تأخذ وتتمسك، وأية فكرة يجب أن تحارب وتشل.

نحن حركة مهاجمة تأتي بتعاليم جديدة تهاجم بها المفاسد والفوضى التي بسببها بقي الشعب في الوضع المؤسف المحزن الموجود فيه.

فإذا صرنا هذه القوة وأصبحنا قادرين على تهديم كل القواعد الفاسدة التي منعت شعبنا عن حياة الخير والحق والجمال، أفنقول، بعد أن صرنا هذه القوة ، إننا لا نحطم المفاسد حتى لا نتهم بالطغيان؟..

لا بأس أن نكون طغاة على المفاسد، لأن قضيتنا ليست إلا قضية الحق والخير والجمال وليست هي ما يحتمل أن يكون حقاً أو أن لا يكون.

إن قضيتنا تعني لنا كل الخير والحق والجمال. وإذا كان يوجد وراء حقيقتنا حقائق غير حقيقتنا، فما كان حقاً لنا هو الحق. بهذا الإيمان نسير وإلى الغلبة يجب أن نسير.

أما الذين لم ينشأوا هذه النشأة ولم يدركوا هذه الحقيقة فهم لم يتمكنوا من الثبات معنا. ولأنهم لم يتمكنوا ولم تكن لهم هذه الثقة أرادوا أن يعطلوا حقيقة المجتمع بالقول إنه لا يمكن أن يدرك وحده الخير والحق والجمال.

لذلك عندما أرسلت منذ سنة رسالتي الثانية من الأرجنتين، التي دعوت فيها الحزب إلى البطولة وإلى مهمة تحقيق القضية القومية الاجتماعية لم يشاؤوا أن ينشروها ويمكن أن يكونوا عطلوها. ولكني احتفظت بنسخة عنها فسلمتها إلى عمدة الإذاعة وأمرتها بنشرها في أول عدد جديد من مجلة عمدة الإذاعة فنشرت في عدد 30 حزيران 1947.

لقد شئت أن أجعلهم يعون حقيقة البطولة وحقيقة مهمة الحركة القومية الاجتماعية عندما قلت في الرسالة المذكورة:
"إن حالة أمتنا ووطننا الحاضرة لا تزال الحالة عينها التي تستدعي التوجه بالكلية إلى مزية أولية أساسية من مزايا حزبكم ونهضتكم العظيمة، أعني مزية البطولة المؤمنة. فإن أزمنة مليئة بالصعاب والمحن تأتي على الأمم الحية فلا يكون لها إنقاذ منها إلا بالبطولة المؤيدة بصحة العقيدة. فإذا تركت أمة ما اعتماد البطولة في الفصل في مصيرها، قررته الحوادث الجارية والإرادات الغريبة.

"إن حزبكم قد افتتح عهد البطولة الشعبية الواعية المؤمنة المنظمة في أمتكم، فإن عهدكم هو عهد البطولة فلا تتخلوا عن طريق البطولة ولا تركنوا إلى طريق المساومة الغرارة. فقد أكسبت حزبكم مرونة سياسته الأصلية ودفلماسية مدرسته السياسية الدقيقة الفكر أنصاراً كثيرين وألفت قلوب جماعة كانت بعيدة عن الحزب. ولكني أقول لكم إن قوتكم الحقيقية ليست في المؤلفة قلوبهم ولا في المتقربين إليكم في طور نموكم بعد زوال كابوس الاحتلال العسكري الأجنبي، بل في بطولتكم المثبتة في حوادث تاريخ حزبكم وفي عناصر رئيسية هي: صحة العقيدة وشدة الإيمان وصلابة الإرادة ومضاء العزيمة. فإذا فقدتم عنصراً واحداً من هذه العناصر الأساسية انصرف عنكم المناصرون وتفرق المتقربون.

"لتفعل إدارتكم العليا كل ما تقدر عليه في ميدان السياسة والدفلماسية فذلك من خصائصها. أما أنتم فإياكم من صرف عقولكم وقلوبكم إلى السياسة والدفلماسية واحذروا من اختلاط السياسة والدفلماسية وأغراضهما بعقيدتكم وإيمانكم وعناصر حيويتكم الأساسية لئلا تكون العاقبة وخيمة.

"وكل عقيدة عظيمة تضع على أتباعها المهمة الأساسية الطبيعية الأولى التي هي، انتصار حقيقتها وتحقيق غايتها. كل ما دون ذلك باطل. وكل عقيدة يصيبها الإخفاق في هذه المهمة تزول ويتبدد أتباعها.

"عوا مهمتكم بكامل خطورتها والهجوا دائماً بهذه الحقيقة ــ حقيقة عقيدتكم ومهمتكم ــ حقيقة وجودكم وإيمانكم وعملكم وجهادكم. "مارسوا البطولة ولا تخافوا الحرب بل خافوا الفشل".

نحن لم نحارب ولا نحارب من أجل أن تكون لنا ولغيرنا حرية فوضوية تخدم لذّات الأفراد المرضى في نفوسهم بل حاربنا ونحارب من أجل تحقيق قضية واضحة وإقامة نظام جديد.

نحن، إذاً لسنا مسؤولين عن العقائد التي تبلبل مجتمعنا وتعطل حقيقتنا وإدراكنا لحقيقتنا. نحن مسؤولون فقط عن هذه القضية التي هي مقدسة لنا، لأننا نؤمن أنها تعبر عن كل الحق وكل الخير وكل الجمال وكل السعادة وكل الصداقة وكل القيم العليا التي يحتاج إليها مجتمعنا لينهض وتكون له حياة جيدة.

أما القضايا الأخرى فمسؤول عنها الذين اعتنقوها. نحن لا نطالب بمصير "الشيوعية" أو "الفردية" إذا انتصرنا. نحن لا نطالب إلا بما نؤمن به نحن.

لقاء ترفيهي

وطنية - نظمت منفذية الشوف في الحزب السوري القومي الاجتماعي لقاء في بعقلين، بحضور المنفذ العام نسيب أبو ضرغم ومدير مديرية الإقليم المستقلة غسان الحسن وحشد من القوميين وزهرات واشبال ومواطنين.

تخلل اللقاء كلمة لأبو ضرغم قال فيها: "هذا اللقاء يجمعنا من الشاطئ إلى قمة الجبل، وهو تأكيد على ما نهدف إليه من تعميم المناخ القومي الاجتماعي الجامع الذي يوحد النفوس ويجعلنا مترابطين متراصين متفاعلين في مواجهة الطائفية والمذهبية والإرهاب وكل آفات المجتمع".

أضاف: "تلتقي لتأكيد حضورنا الفاعل، ولإثبات أهمية قوة الجماعة، جماعة تتواصل، وتشارك في كافة أنشطة المنطقة لتشكيل حالة تواصل مع كل المتحدات الاجتماعية في الوطن والأمة، من أجل خلق مساحة من المواطنة الراقية الرافضة لكل دعوات التفرقة والتشتت".

وفي الختام أقيم حفل عشاء، وأغنيات للفنانة جوليا بطرس.

ضهور الشوير
من جهة اخرى، أقامت مديرية ضهور الشوير في المتن الشمالي يوما ترفيهيا عند عرزال سعاده، حضره عميد المالية عصام حريق، منفذ عام المتن الشمالي سمعان الخراط وجمع من القوميين، وتخلل اليوم الترفيهي استعراض سلسلة من النشاطات التي تنوي مديرية الشوير إقامتها. 

الأول من آذار - مديرية بعقلين

احتفلت مديرية بعقلين التابعة لمنفذية الشوف في الحزب السوري القومي الاجتماعي بالأول من آذار، عيد مولد باعث النهضة الزعيم أنطون سعاده، فأنيرت الشموع في الساحات العامة، ورفع القوميون والطلبة اللافتات في أحياء البلدة.
وأقامت المديرية ندوة في قاعة مجمّع الشوف السياحي، حاضر فيها مدير الدائرة الإذاعية في الحزب كمال نادر، بحضور منفذ عام الشوف الدكتور نسيب أبو ضرغم وأعضاء هيئة المنفذية، وممثل عن بلدية بعقلين، وممثل عن الحزب التقدمي الاشتراكي، ومسؤولي عدد من الجمعيات الأهلية والأندية، وحشد من القوميين والمواطنين.
استهلّ نادر محاضرته بالقول: نحتفل بالأول من آذار لأنّ أنطون سعاده أبدع نهضةً عزّ نظيرها في العصر الحديث، وأعطى عطاءً فكرياً ونضالياً باهراً، وختم كلّ ذلك بوقفة العزّ، واستشهد ولم يتراجع عن قضيته ومبادئه، وبذلك تجاوز الموت واستحقّ الحياة، وأن يكون يوم ميلاده عيداً قومياً.
لقد جاء سعاده بمشروع قوميّ كبير يساوي حياة الأمة والعالم العربي، وهو يعني أن نصبح دولة عظيمة بكلّ المقاييس السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدفاعية والعلمية والفنية، وإنّ مبادئ الحزب الأساسية والإصلاحية هي أركان هذا المشروع ومعالم النظام الجديد الذي نقدّمه لشعبنا كي يبني حياته عليه وينتهي من التخبّط والفوضى والحروب الطائفية والانقسامات المدمّرة، وكي يضع حدّاً للغزوات الخارجية والحروب العدوانية.
وأضاف نادر: لقد تميّز فكر الحزب بالتعريف العلمي والتحديد، فنحن حدّدنا معنى الأمة والقومية، ووضعنا حدوداً واضحة للوطن السوري… ونحن عندما نقول إنّ سورية للسوريين وأنها أمةٌ تامة، نعني بذلك تحديد السيادة، الاستقلال والقرار.
وإلى جانب العقيدة، وضع سعاده النظام والقواعد الأخلاقية لبناء الدولة القومية، كما كتب في الأدب والموسيقى، وأعطى نظرات واقعية في التحليل والنقد الأدبي والفني، وعمل على تحرير العقل الإنساني من بعض القيود التي تعطله وتحدّ من دوره. جاء سعاده ليقول «إنّ العقل هو الشرع الأعلى في المجتمع وأنّ المجتمع معرفة والمعرفة قوة»، كما وضع أسس الفلسفة المادية ـ الروحية ـ «المدرحية» ـ والتي تعني أنّ الوجود الإنساني وجودٌ اجتماعي مادي روحي، تتفاعل فيه القوى النفسية مع القوى المادية فتنتج الحضارة والتمدّن والعلوم والفنون، ويتحرّك التاريخ من نتاج تفاعل هذه القوى وتناغمها، فلا وجود للروح المطلقة إلا في عالم الغيب ولا وجود للمادة المطلقة إلا في عالم الجماد، أما الوجود الإنساني فهو وجود مادي روحي.
وقال نادر: قرأنا على ضوء فكر سعاده ومبادئه تاريخنا وأدركنا عظمته، ووجدنا أنّ التأثير اليهودي في تشويهه فظيعٌ ومدمّر، فصرنا نحن أبناء البلاد الكنعانية بموجب هذا التشويه ملعونين إلى الأبد، بينما صار اليهود مباركين إلى الأبد، وأصبح همّ العرب والمفكرين العرب أن يخرجوا من هذه الأسطورة باجتهاد مفاده أنّ العرب ساميون وأنهم أبناء عمّ اليهود.
ولماذا عليّ أن أصدّق التشويه ضدّ الحضارة الآشورية والفينيقية والمصرية، بينما تنبت قصص الحقد اليهودي ومزاعم تفوّق اليهود وادّعاءاتهم بـ«حق» لهم في بلادنا. هنا لا بدّ أن نشير إلى وثيقة علمية تاريخية صدرت من مجموعة علماء يهود «إسرائيليين» في علم الآثار والتاريخ والاركيولوجيا وقالوا فيها إنهم «بعد حفريات مكثفة طوال سبعين سنة في أرض فلسطين لم يعثروا على حجرٍ واحد يشهد على صحة تاريخهم، ويبدو أنّ قصص أجدادهم محض خيال». وتضيف الوثيقة: «نحن لم نهاجر إلى مصر ولم نخرج من مصر ولا يوجد أثرٌ لمملكة داود أو مملكة سليمان».
وأكد نادر: أنّ منهج التفكير عند سعاده جعلنا ندرك أهمية حضارتنا وتاريخنا، ونعرف أننا أول من بنى مداميك الحضارة والمعرفة في العالم القديم، ونحن من أدرك أنّ الأرض تدور حول الشمس ونظمنا السنة الشمسية والأشهر الاثني عشر، وكانت السنة الآشورية السورية تبدأ في آذار عندما يتعادل الليل والنهار، ولذلك فإن أيلول هو الشهر السابع سبتمبر وتشرين الأول هو الثامن اكتوبر وتشرين الثاني هو التاسع نوفمبر وكانون الأول هو العاشر ديسمبر أما شباط فهو الأخير، ولذلك هو ناقص لأنه لم يبقَ له ما يكفي من الأيام… وفي حضارتنا سُمّيت الأيام بأسماء الكواكب السبعة الأولى التي اكتشفها علماء الكون منذ أكثر من ستة آلاف سنة في حضارة ما بين النهرين، وما زالت إلى اليوم تحمل هذه الأسماء في اللغات اللاتينية: يوم الشمس صانداي ويوم القمر مانداي أو لوندي ومارس ماردي وميركور ميركريدي وجوبيتير جودي وفينوس وساتورن vendredi Samedi ، ولهذا نقف بذهول أمام هول ما نراه من تدمير شواهد الحضارة على أيدي أعداء الحضارة وأعداء الإنسانية من قتلة وإرهابيين في العراق والشام.
هذا بعضٌ ممّا علمنا إياه سعاده وما توصلنا إليه عن طريق العقل والمعرفة، وهذه المبادئ والمشروع هي ملكٌ لكم فاحملوها وحققوا بها المستقبل الأفضل، فنحن عابرون في هذا العالم، أما الوطن فهو باقٍ ويستحق أن ينعم بالقوة والاستقرار والغنى والحرية والكرامة.
وختم نادر قائلاً: إنّ لبنان يستطيع أن يصلح بعض أوضاعه إذا تبنى الفكر الإصلاحي الذي جاء به سعاده، ولقد استطاع هذا البلد الصغير أن يجتاز التجارب الأخيرة بحكمة ونجاح، كما استطاع أن يقاوم ويقاتل دفاعاً عن حقوقه وحقوق قومية أخرى، والأمل بالمستقبل وبالنصر موجود وأكيد، طالما أننا مصارعون على قاعدة أن «الصراع هو طريق التقدم والحرية وويلٌ للمستسلمين الذين يتنازلون عن الصراع فيتنازلون عن الحرية وينالون العبودية التي يستحقون».
وفي الختام أقيم حفل كوكتيل، ووزّعت المديرية كتيّباً عن تاريخ الحزب في بعقلين وزيارات الزعيم إليها، منذ عام 1935 مع بدايات تأسيس الحزب.

الضلال البعيد

قلنا في البحث السابق (عودة إلى جنون الخلود فصل من 1 وحتى 12) إننا لا نصدق أن مسلماً محمدياً واحداً مُدركاً لحقيقة رسالة النبي العربي يقبل كلام رشيد الخوري الذي ظاهره تأييد الإسلام المحمدي، وباطنُه هدم للعقائد الإسلامية الصحيحة. ووعدنا القراء بتبيان ذلك في ما يجيء من هذا البحث. 
قلنا أيضاً أن رشيد سليم الخوري ليس من أهل العلم ولا من أهل الفلسفة والتفكير ولا من أهل الأدب الصحيح إذا اتخذنا مقياساً للأدب غير الألفاظ والأوزان. وإن تناوله الدين الإسلامي في مذهبين جليلين كالمسيحية والمحمدية ليس سوى وغول على العلم والفلسفة، في حين أنَّ قصده الحقيقي هو مدحُ الإسلام المحمدي وهَجْوُ المسيحية. 
يتظاهر رشيد الخوري في بدء حارضته التي أسماها، جهلاً منه، محاضرة، بأنه قد آمن بالإسلام المحمدي. ثم يأخذ في الخلط بين كلام رجل متديِّن ورجل يبحث في طبائع الأديان بدون تحيزُّ أو انحراف، اجتهاداً منه في إلباس مدحه وهجوه لباسَ البحث.
فإذا كان الخوري قد أسْلَمَ حقاً، اعتقاداً منه بصحة الدين المحمدي وكلامه المُنزل، فإنَّ "محاضرته" لا تدلُّ على سوى رجلٍ أسلم عن جهلٍ بحقيقة الإسلام ونصوصه المنزلة، أو رجلٍ يتظاهر بالإسلام نفاقاً في الدين ليشتريَ بآياته ثمناً قليلاً.
أولُ ما نطق به الخوري المتظاهر بالإسلام المحمدي في مدح هذا الدين كان كفراً به وبآياته. قال في بدء حارضته: "لما فضلت الإسلام على المسيحية في خطابي العام الماضي الخ" فأخذ نقطة الابتداء تفضيل الدين الإسلامي المحمدي على الدين الإسلامي المسيحي، وجعل هذه النقطة مدار كلامه فنطق بكلمة الكفر من حين فتح فاه أو جرَّ قلمه على القرطاس فحق عليه قولُ الآيات: {إنَّ الّذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتّخذوا بين ذلك سبيلاً. أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً. والذين آمنوا بالله ورسله ولم يُفرّقوا بين أحد منهم أولئك سوف يُؤْتيهم أُجورهم وكان الله غفوراً رحيماً} من سورة النساء (150 ـ 152). ومن سورة البقرة {ليَسَ البِرُّ أن تُولُّوا وجوهَكم قِبَلَ المشرق والمغرب ولكنّ البرَّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين الخ} (177). ومن سورة النساء {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك الخ} (162).
فمحاولة مدح الإسلام المحمدي بالمفاضلة بينه وبين المسيحية، وبالتفريق بين محمد والمسيح هي محاولة كفر بكلام الله المنزل بالوحي على محمد رسوله. والذين يشايعون رشيد الخوري في قوله ويؤيدونه من المسلمين المحمديين ليسوا بالحقيقة سوى زنادقة في أثواب مؤمنين، يتظاهرون أمام المؤمنين البسطاء الودعاء القلوب أنهم يغارون على الدين، وما غيرتهم إلاّ على زينة الدنيا وأعراضها.
لو لم يكن رشيد الخوري واغلاً على الفلسفة والدين والعلم لمَا كَان تجاسَر على اقتحام هذا الموضوع الخطر والخبط في مسالكه. ولكنَّه يظنّ أنه إذا التقط أشتاتاً من الأقوال الواردة لغيره وحشاها بهذر من عنده ووقف في جمهور من عامة الناس وأخذ يتشدَّق بهذه الأقوال فقد صار ((عالماً جليلاً)) كما صار بمثل هذا الخلط ((شاعراً مفلقاً)). وظنّ، فوق ذلك، أنه إذا سنده سياسيٌّ من سياسييِّ الدين والأدب كشكيب إرسلان فقد ربح الخلود ((كمدافع عن شريعة محمد وخلفائه في الأرض)) الذين يمني شكيب إرسلان نفسه بأن يكون واحداً منهم.
وفيما الخوري يخلُط ويخبط وينافق في الإيمان إذا به يحاولُ الظهور بمظهر العالم الذي يقلِّب الأديان على وجوهها ويدرسُ طبائعها، والفيلسوف الذي يُعطي القيم الفكرية مواضعها، وهو يفعل ذلك من غير أن يحتاج إلى بحثٍ واستقراءٍ بل بالاستبداد بالمنطق وبتسخير القيم والمواضيع لأغراض هجوه ومديحه.
ولما لم يكن من أهل العلم والفلسفة ولا من أهل الأدب الصحيح، كما بيّنا آنفاً، فقد وقف في تفكيره ونظره في المسيحية والمحمدية عند حدود التفكير العاميِّ المنحطّ الخالي من كل ثقافة ودراسة صحيحة.
وليس أدلّ على خلطه وخبطه، في ما لا يعلم، من قوله: "لو كنت في هذا البحث الديني اسماً والاجتماعي فعلاً أعرض لمسائل الآخرة والجنة والنار لحقَّ لكلِّ أديب أن يلحاني، ولكني تناولت في الإسلام ناحيته الدينية البحتة، وأشرت إلى علاقته بالحياة الدنيا وتحديده سلوك الفرد تحديداً مرجعه العقل السليم." فقوله "ناحيته الدينية البحتة" مجرِّداً هذه الناحية من مسائل الآخرة والجنة والنار ليس سوى جهل بما هو الدين وما هو العلم وما هي الفلسفة، إذ لو جردنا الدين من مسائل الآخرة والعقاب والثواب لما بقي له شيء من "ناحيته الدينية البحتة".. ولكن من أين لرجل واغل على هذه المواضيع السامية أن يعلم ما هو من طبيعة الدين وما هو من طبيعة العلم وما هو من طبيعة الفلسفة؟
لا يعرف رشيد الخوري غير المثل الدنيا، ولا قدرة له على تناول غير الفكر العاميَّة، السطحية. والعامة تخبط في الشؤون الفلسفية الأساسية خبطا، ولذلك نشأت عند عامة المسيحيين السوريين الفاقدة الثقافة الصحيحة والعلم اعتقادات وتأويلات في المذهبين المسيحي والمحمدي، أقلُّ ما يقال فيها أنها جزئية وسطحية. هكذا أُخذت أول تعاليم المسيح بأنها تعاليم توحي الذل لإساءتهم فهم أقوال المسيح التي منها القول: من ضربك على خدك فحوِّل له الآخر. وأيسرُ أن يدخل حبلٌ في ثقب إبرةٍ من أن يدخل غنيٌّ ملكوت السموات.
وهذه العامة نفسها، نظراً لجهلها وما ورثته من عصور الانحطاط، أخذت تؤوِّل التعاليم المحمدية من غير درس لها، وتدين محمداً والمحمديين ببعض آيات التقطتها اتفاقاً ولم تحسن تأويلها وفهمها كالآيات المتعلقة بأزواج النبي والنكاح وصور الجنة المادية، ناسية قول المسيح: لا تدينوا لكيلا تدانوا.
وكذلك نشأت عند عامة المحمديين السوريين الفاقدة الثقافة الصحيحة والعلم اعتقادات وتأويلات في المذهبين المحمدي والمسيحي أقلُّ ما يقال فيها أنها جزئية وسطحية. هكذا أخذت تؤوّل آيات القرآن تأويلاً يوافق هواها، فأخذت ببعض الآيات وأهملت البعض الآخر.
وهذه العامة نفسها، نظراً لجهلها وما ورثته من عصور الانحطاط، أخذت تؤوّل تعاليم المسيحية من غير درس لها، وتدين المسيح والمسيحيين ببعض آياتٍ التقطتها اتفاقاً ولم تحسن تأويلها كالآيات المتعلقة بملكوت السموات وكيف يدخلها الإنسان، ناسية قول القرآن: {آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربَّنا وإليك المصير}. من سورة البقرة 136.
وقسمٌ كبير من عامة السوريين المسيحيين والمحمديين لم يعد مؤمناً الإيمان الدينيّ، ولكنه يتشبث بعنعناتٍ من التحزّبات الدينية، فهو قد فقد إيمانه الدينيَّ، ولم يحصل على ثقافة وعلم يرسّخانه في المعرفة ويهبانه نظرة شاملة في الحياة، ويساعدانه على فهم الدين وتأويله على الوجه الأصحّ، ونتج عن ذلك كلِّه انحطاط كبير في الإدراك والتأويل وفساد في الاستنتاج وتصادم في النفسيات وفوضى في المنازع وتخبّط في المذاهب.
من هذا الباب العاميّ ما حبَّشه رشيد الخوري ليلقي على مدحه المحمديّة وهجوه المسيحية صفة البحث. وبهذا التفكير العاميِّ الضعيف الإدراك قال إن الناحية الدينية البحتة لا تتناول مسائل الآخرة والجنة والنار التي بها لا بغيرها صار الدين ديناً. ولولا مسائل الآخرة وخلود النفس والثواب والعقاب لما امتاز الدين بشيء ولما زاد شيئاً على التعاليم الفلسفية السامية التي قال بها فلاسفة عظام، والتي لم تأخذ في قلوب عامة البشر المكان الذي أخذه الدين بسبب عدم نسبتها إلى قوة إلهية خفية، وعدم إسنادها إلى الاعتقاد بحياة أخرى بعد الموت تحاسب فيها الأنفس على ما تقيدت به من التعاليم المذكورة وما لم تتقيد به. فالوجهة الدينية البحت هي العكس تماماً مما ذكره رشيد الخوري في حارضته الهجائية، أي إنّه بلا الآخرة والجنة والنار لا تبقى للدين وجهة دينية بحت.
ومن بدائع بيان هذا الناثر، الهاجي أنه يدخل المواضيع بعضها في بعض فيشوِّش ذهن القارئ الذي لا يكاد يشعر بأنه يتتبَّع فكرة حتى يرى الكاتب قد أزاحها من أمام عينيه، كما يزيح صاحب صندوق الفرجة صورة "صاحب الخضراء" من أمام عيني الطفل قبل أن يستوعب جمال شكلها، ليضع في محلها صورة صاحب "الأبجر". فبينما الخوري يحاول التنصل من تبعة إثارة التعصبات الدينية المريعة، إذا به يقطع حبل الفكر في هذه الناحية بغتة ويدخل موضوع الدين الإسلامي المحمدي في موضوع "الناحية" التي يعالجها على هذا الشكل:
"ولكني تناولت في الإسلام ناحيته الدينية البحتة، وأشرتُ إلى علاقته بالحياة الدنيا وتحديده سلوك الفرد تحديداً مرجعه العقل السليم فهو (الإسلام) لم يفصل الإنسان عن نفسه حتى تتقطع بينهما الأسباب الخ". إن القارئ ذا المنطق السليم يتوقع من "المحاضر" أن يعود بعد تمام جملة "العقل السليم"، فيعطف على نفسه ومبرِّراته ويقول مثلاً: "وإني أجد تبيان ذلك من الأمور الضرورية الخ" ويختم هذا الموضوع مُعدَّاً فكرَ القارئ للانتقال إلى موضوع آخر، ولكنَّ أصحاب الخلود الدنكيخوطي لا يفتأون يأتون بالمعجزات التي لم تخطر على قلب بشر، فليس للقارئ حيلة غير التسليم لسحر بيانهم الخاطف الأبصار والمحيّر العقول!.
المهووس بالخلود مستعجل فأفسحوا له المجال. لا تظنوا أنَّ لجميع حدود المنطق قدرة على كبح جماحه. إنه أرعن، ملحٌّ، لاجٌّ، يقتحم سياجات العقل، ويقفز من النوافذ إلى المجامع، ويدخل بلا استئذان، إنه هاج سفيه، من يقدر أن يقف أمام شتمه وسبابه؟
ذهب الحديث عن نوع الموضوع وتحديده، وجاء الموضوع نفسه. ولا تسل كيف حدثت هذه العجيبة ألم يأتِك أنّ من البيان لسحراً؟ هكذا يكون السحر. فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر فقل أيها الإنسان أين المفر؟
قال صاحب الحارضة الهجائية من فيض "علمه": "فهو (الإسلام) لم يفصل الإنسان عن نفسه حتى تتقطع بينهما الأسباب، ولم يباعد بين الجسد والروح في هذه الحياة، وهما وحدة لا تتجزأ إلاّ بالموت، ولم ينس العقل الذي يجمِّل ويكمِّل بناء البشر السوي، بل لقد قدمه النبيُّ على شريعته نفسها بقوله: الشرع عقلٌ من خارج، والعقل شرعٌ من داخل، وقوله، دين المرء عقله، فمن لا عقل له لا دين له، وقوله لا يتمّ دين المرء حتى يتمّ عقله، فشرَّف الدماغ البشري بهذه الآيات البيِّنات أعظم تشريف...
"ولقد أشاد بذكر العلم وفضل العلماء، وقال في هذا المعنى من الحكم ما يكاد يجمع كتاباً، ونحن لو بحثنا في الإنجيل لما وجدنا آية واحدة تذكر العلم بخير أو بشرّ".

هذا هو الموضوع، وهنا بدء تفضيل المحمدية على المسيحية الذي قلنا إنه كفرٌ بالإسلام الذي يتظاهر رشيد الخوري بأنه آمنَ به. وبما أن الخوري قد خلط بين الدين والطريقة العلمانية في الكلام الذي شاء أن يسمِّيه بحثاً فلا بد من اقتفاء أثره في اعوجاجه والتوائه. إنه جعل هذا الكلام "بحثاً اجتماعياً فعلاً" فلنوافقه من أجل البحث.
جعل الخوري أول تفضيل للمحمدية على المسيحية ما ورد في الحديث النبويِّ من الأقوال عن العقل واتصالهِ بالدين، وإشادةِ النبي بذكر العلم وفضل العلماء. فارتكب عدة جرائم ضدَّ الدين الإسلامي في المحمدية وفي المسيحية معاً، وضدَّ العقل الذي عرف محمد قدره فوصفه بما عرف. وأولُ جريمة ضدَّ الدين الإسلامي المحمدي أنه قدم الحديث الشريف على القرآن، وجعل هذا تابعاً لذاك، ووضع كلام الرسول قبل كلام الله في تبيان جوهر الإسلام المحمدي. والجريمة الثانية الكبرى هي أنه جعل الحديث النبويَّ حداً للآيات المنزلة وحكماً عليها. فإذا كان محمد قد قدم العقل على الشريعة المنزلة، كما يقول الخوري، فالشريعة قد أصبحت منقوضة، وأصبح العمل بها على جهة التسليم بأحكام الله وحدوده باطلاً. وإذا أصبح العقل هو المقدَّم على الشريعة المنزلة فأية قيمة إلهية بقيت لتلك الشريعة؟. وأول جريمة ضد المذهبين المحمدي والمسيحي معاً هو مقابلته الإنجيل على الحديث النبويِّ، والإنجيل كلام إلهيّ في عُرف الإسلام في المذهبين المسيحي والمحمدي. فمن حيث المسيح هو عند المسيحيين ابن الله وروحه كان كلامه كلام الله. وفي القرآن إنكار لكون المسيح هو الله أو ابنه من صاحبة ومشاركاً له في الحكم يوم الدينونة، ولكن فيه إثبات لكون كلام المسيح كلاماً إلهياً باعتباره منزلاً عملاً بقوله: {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك الخ} (سورة النساء: 162) وجاء قول الله في سورة مريم: {فأشارت إليه قالوا كيف نكلِّم من كان في المهد صبياً. قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً. وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً (29 حتى - 31) ... والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعثُ حياً. ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون } (33و34). وفي سورة النساء: {وإنّ من أهل الكتاب إلاّ ليؤمننَّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً} (159). وفي آل عمران: {نزّل عليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدًى للناس وأنزل الفرقان الخ} (آل عمران: 3
 و4).
كان الصحيح. من حيث البحث، أن يقابل القرآن على الإنجيل مقابلة كلام إلهي لكلام إلهي، فلا يزين للمؤمنين أن يتبعوا غروره ونفاقه. بهذا يقضي منطق العقل. ولكن الذي اختلَّ منطقه واضطرب شعوره أيعرف الدين أو المنطق؟
بقي أن نعلق على قول الخوري المتقدم تعليقاً أوسع في ما يختص بما جعله أساس المفاضلة. إن وصف محمد الشرع بأنه عقلٌ من خارج، ووصفه العقل بأنه شرعٌ من داخل، إنما هو شيء من التعليل الشعريّ الذي لا يعيّن تعييناً جازماً مركز العقل البشري من الشرع. وقوله: لا يتم دين المرء حتى يتمّ عقله، ومن لا عقل له، لا دين له، فهو حثّ على عدم الجهل بالدين، ولا يشتمل على أيّة نظرة فلسفية شاملة في العقل. ولو اشتمل على هذه النظرة الشاملة وجعلها محمد قاعدة دعوته لكان اكتفى بأن يكون فيلسوفاً يذهب مذهب الفلاسفة المحكمّين العقل في كل الظواهر، الجاعلينه جوهر الطبيعة وميزة الإنسان، فيكون، في هذا الباب، تلميذاً من تلامذة المدرسة السورية الفلسفية التي وضع قواعدها الفلسفية الفيلسوف السوريّ العظيم زينون، وهو قبل محمد وقبل المسيح بزمان. ومن هذا الوجه ما كان يكون لمحمد فضل. إذ هو لم يزد مقدار ذرّة على مذهب الرواقيين في الفكر. إن ميزة محمد هي في أنه نبيّ لا في أنه فيلسوف. وميزة المحمدية هي في القرآن والشريعة الواردة فيه، لا في الحديث الذي هو من مجملات النبي وحسن نظره وسلامة فطرته.